الاثنين، 13 ديسمبر 2021

قصة اليهودي المُنسلخ من آلايات

 

\عطية مرجان ابوزر

الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم النبيين والسلام على الأنبياء جميعهم والمرسلين المُكرمين وبعد:
جزاء المنسلخ من آيات الله وهي من وحي قوله تعالى " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف : 175]

نزلت هذه الآيات العظيمة في رجل من أهل اليمن يقال له بلعم ابن باعوراء آتاه الله آياته فتركها ,وكان مجاب الدعوة يقدمه بنو أسرائيل في الشدائد وقد بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله .

من هو هذا الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها. 
أغلب المفسرين قالوا إن الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو بلعام بن باعوراء، وقيل هو : ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وقد شهد الله أنه كان من أهل العلم، لقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} وكان من أهل العبادة حتى اشتهر بكونه مجاب الدعوة وقيل عنه أنه  كان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون ما يصدر عنه من العلم ، ولم يكن نبيا، لأن ما صار إليه فيما بعد من فسق وجهل ليس من أحوال الأنبياء كونهم معصومين عن الردة من اليقين إلى الكفر, وهذا الرجل كان عبدا من عباد الله المخلصين غير أنه فتن بملذات الدنيا وعرضها الشيطاني حتى انقلب من حال العبادة إلى حال المعصية .
بلعم بن بالعوراء هو بلعم بن بالعوراء بن سنور بن وسيم بن ناب بن النبي لوط (عليه السلام ) رجل يهودي من أتباع موسى عليه السلام اسمه(بالعبريةבלעם בן בעור) وكان عالما من علماء بني إسرائيل في زمن نبي الله موسى وفرعون.

قصة المنسلخ:- 
القصة موجودة في أخبار الأمم والقرون والأساطير مستوحاة من قصص التوراة ولكنها مغلوطة وضعيفة وبلا مرجعية تضبط خبرها وهدفها ،إلا أن القرآن المعجز بخبره وقصصه ونظمه جاء بها في إيجاز شديد دون ذكر للاسم , فكان القرآن أوثق المصادر التي يمكن أن يتدبر فيه الناس تفاصيل قصة هذا الرجل العبرة,وهي مجملة فيه يما يفي بتحقيق المقصد حيث ركزت الايات على أهم فصول الحادثة و عرضت أبرز المواطن المعروضة للفائدة والدرس والعبرة.
وقيل في أثره أنه اجتمع قوم الجبارون ( الفلسطينيون) إلى بلعم وقالوا : إن موسى وقومه جاءوا ليقتلونا ويخرجونا من ديارنا، فادع الله عليهم ! وكان بلعم يعرف اسم الله الأعظم ، فقال لهم كيف أدعو على نبي الله والمؤمنين ومعهم الملائكة ,وظلوا يرجعونه مرارا في ذلك وهو يمتنع عليهم. فجاءوا امرأته وأهدوا لها هدية وطلبوا إليها أن تحسن لزوجها أن يدعو على بني إسرائيل , فألحت عليه في الأمر, فامتنع، فلم تزل به حتى قال (أستخير ربي ) فاستخار الله تعالى، فنهاه في المنام، فأخبرها بذلك، فقالت راجع ربك. فعاد الاستخارة فلم يرد جواب. فقالت لو أراد ربك لنهاك. ولم تزل تخدعه حتى أجابها. فركب حماراً له متوجهاً إلى جبل يشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم وعلى نبيهم موسى  فما مشى عليها إلا قليلاً حتى ربض الحمار فضربه حتى قام فركبه، فسار قليلاً فربض، ففعل ذلك ثلاث مرات. فلما اشتد ضربه في الثالثة فأنطقها الله فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة تردني ؟ فلم يرجع، فعاد فأنطلق بحماره حينئذ حتى أشرف على بني إسرائيل فكان كلما أراد أن يدعو عليهم، ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاءه عليهم. فاستهجنوا منه ذلك ونددوا به ؟ فقال هذا شيء غلب الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال الآن خسرت الدنيا والآخرة.
وكان الله عالم بارتداد الرجل وانقلابه ولشدة إسرافه وارتيابه شاء الله أن يضله " يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ [غافر : 34]فأصر الرجل على عناده وظلمه وأراد له له الله ما أراد ...وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم : 27] فلم يبق له من وسيلة إلا المكر والحيلة فاستغل ما علمه الله من علم فأداره لخدمة الشيطان , فأمر القوم أن يزينوا النساء ويعطوهن السلع للبيع ويرسلوهن إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها، وقال إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم. ففعلوا ذلك ودفعوا بنسائهم للزنا , ودخلت النساء عسكر بني إسرائيل، فأخذ -زمرى بن شلوم -وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب امرأة، وأتى بها إلى موسى عليه السلام فقال له ( أظنك تقول ان هذا حرام فوالله لا نطيعك ) ثم أدخلها خيمة فوقع عليها ! فأنزل الله عليهم الطاعون. وكان صحاح بن عيراد بن هارون صاحب عمه موسى غائباً، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني إسرائيل، وكان ذا قوة وبطش. فقصد - زمرى- فرآه مضاجع المرأة فطعنها بحربة بيده ,ورفع الله الطاعون عن القوم .وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفاً. وقيل: سبعون ألفاً. وكانت تلك أول فتنة في بني إسرائيل والمعروفة بفتنة النساء.
- كانت هذه الأخبار من أسفار التوراة - أما المحدثون المسلمون فقالواما لم يتغير في اسمه فهو:
رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء كان رجلا من أهل البلقاء ( مكان في غرب الأردن) وكان يعلم الاسم الأكبر لله تعالى وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين ( الفلسطينيين) بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه مالا وهدايا فتبع دين الملك وارتد عن دين موسى  .
 وقد جاء في بعض الأحاديث أنه لما نزل موسى بالجبارين ومن معه أتاه - بلعم - بنو عمه وقومه فقالوا إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه فذلك قوله تعالى " فانسلخ منها فأتبعه الشيطان " الآية .
وقال بعض علماء المسلمين كالسدي :- لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " بعث الله تعالى (يوشع بن نون) نبيا فدعا يوشع بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي الله من بعد موسى وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له -بلعام- وكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر وأتى الجبارين وقال لهم لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم مطمعه من النساء الجميلات اللاتي أغوينه , فمال إلى زينة الحياة الدنيا وحب النساء , وكان له ما كان من شأن القصة المروية أعلاه.
وردت كلمة "سلخ " في القران المجيد ثلاث مرات فقط في الآيات :
  1. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف : 175]
  2. فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة : 5]
  3. وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ [يس : 37]
في زمن انتشرت فيه وسائل الإعلام انتشارا بات له " تجاره ومستغلوه " فمن القنوات التلفزيونية الفضائية الى الانترنت الى الصحافة المسموعة والمكتوبة وغيرها بات ما يُسمى بمشاهير الدعاة يُخضع بعضهم الدين للدنيا والقرآن للعقل والدعوة لاستدرار المال وانتشرت الفتاوى التي ما انزل الله بها من سلطان ....الخ , حتى ضاع عامة الناس وبسطاءهم بين الحق والباطل والعياذ بالله, فباتت الإمامة في الدين مرتعا للرويبضات وتجار علوم الكلام, فبات النذير واجبا على كل مسلم لكل هؤلاء بتقوى الله وكانت النصيحة بالتذكير أن لا يأمن أحد مكر الله تعالى  ولو ظن أنه بلغ في الدين أعلى منزلة، ونال فيه أرفع رتبة، وتلك هي قصة موسى نبي الله الذي ظن أنه أعلم الناس فأخبره ربه أن هناك عبدا من عباده أكثر منه علما " طالع قصة موسى وفتاه والخضر" وهذه قصة الرجل اليهودي الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فجهل بعد علم، وفسق بعد طاعة، حتى علم الله منه تأصل الفساد في طبعه وتجذره في قلبه، فوكله إلى نفسه، فلم ينتفع بما كان عنده من خير الهدى ولم يصبر عند بلاء الله وفتنته، فكان من الغاوين، وضرب الله له في القرآن مثلا باخس الكائنات في آيات تتلى إلى يوم القيامة.
القصة رغم خطورتها وأهميتها جاءت ملخصة في ثلاث آيات هن:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)  سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:177]. 
هذه القصة المحزنة للقلب المؤمن تستحق منا وقفة تدبر للعبرة , حيث نرى كيف انحدر هذا الرجل العابد من علو في الدين كان قد اكتسبه بعد طول صبر ويقين فانحدر بانسلاخه من التقوى إلى الهوى فبات عبد الشيطان فقال فيه ربه سبحانه يقص قصته لعباده المتقين : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، ...} [الأعراف: 175-177].وذكر المفسرون والمؤرخون من مظاهر انسلاخ صاحب القصة عن آيات الله مظاهرته لأهل الكفر نصرتهم على المؤمنين بكل الأساليب والطرق، ولهثه خلف الشهوات وسقوطه في وحلها، بما يطول ذكره. 
و نكتفي بما ورد في القرآن من هذه القصة العجيبة , ولا نتورط في سوق الأخبار الإسرائيلية عن تفاصيلها المروية في بعض كتب التفسير والتاريخ ولنتدبر هذه القصة الأقصر تفصيلا في القرآن ,لإن تأمل هذه القصة وتدبرها فيه ما يهدي المؤمن و ينفعه بإذن الله بما يعين على الصبر والثبات على دين الله، للمسلمين عامة وللأئمة منهم خاصة، حتى يستشعر المرء دائما مكر الله فلا يأمنه أبدا {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99], 
1- إن من أبغض الأمور إلى الله، والموجبة لسخطه وانتقامه، كفر نعمه وعدم شكره بالقلب واللسان والفعال، و إن من أعظم النعم الإلهية والمنح الربانية التي يجب شكرها على نحو ما وصف نعمة العلم والهداية، وعلى كل من أوتيهما أن يؤدي شكرهما، فيعترف أولا بأن مسديهما هو الله وحده لا شريك له، كما أقر بذلك أمام الموحدين إبراهيم عليه السلام فيما قص عنه القرآن {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، ولهج به يوسف عليه السلام {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ..} [يوسف: من الآية101]، ثم يعمل بما أوتي من العلم، ويدعو إليه، ويصبر على الأذى فيه، ولا يكن كصاحب هذه القصة الذي أبان الله سخطه عليه وعدم رضاه بفعله بذكره سبحانه وتعالى نعمته عليه وهو إتيانه الآيات مقترنا بما قابله من الكفر المتجسد في الانسلاخ منها {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}.
2- إن ما يقع فيه العبد من الخطأ والزلل في القول أو العمل، ثم يتوب منه ويقلع عنه، لا يوجب دوام سخط الله عليه ولا سلب نعمه إياه، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17]، وأما الفاقرة فهي الإصرار على المعصية وقصد مخالفة أوامر الله مع كون المواعظ الشرعية والكونية لائحة لكل متدبر ولا يتصور صدور هذا إلا من منسلخ تماما من آيات الله، ومتبع لخطوات الشيطان، يجول بين الشبهات والشهوات لا يتقي شيئا منها، وهذا هو الطغيان الذي قل من يرجع إلى الاستقامة بعد بلوغه {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176].
3- إن ما فتن به الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها جملة مركبة من مخالفات شرعية من جهة العلم وجهة العمل، فقد انسلخ أولا من آيات الله، وقصد إلى استعمال علمه في الصد عن سبيل الله في محاولته الدعاء على موسى وجيشه بالاسم الأعظم الذي علمه الله، ثم أكل الرشاوى في دين الله، وخذلان المؤمنين وإعانة أعدائهم عليهم، بما أشار على قومه من إرسال نسائهم على بني إسرائيل تستقبلهم لإغرائهم في الفاحشة، وكل ذلك يدل على تجرده من حلة اليقين الذي كان قد كساه الله بها، وتخليه عن الصبر الذي كان عصمه له ، مما حوله عن مقام الإمامة في الدين وجعله من علماء السوء. 
4- إن الذي يقدح في يقين العالم أو ينقص من صبره قد ينبع من مصادر خارجية تغزوا عقيدته و التزامه بطاعة الله، كأن يستفز لاستخدام علمه فيما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يطلب منه عملا ينصر به باطلا أو يخذل به حقا، وحينئذ يتميز أهل الصبر واليقين عن أهل الرقة في الدين، لما يثبت الله أولئك بإيمانهم وصبرهم فلا تنطق ألسنتهم إلا بالحق، ولا تبطش جوارحهم إلا بالحق، و يخذل أولئك بجهلهم وخفتهم فيتأولون في قول الباطل، وفعل الباطل، ونصرة الباطل، ويتدرجون في ذلك حتى إذا رسخت أقدامهم في الشر صاروا في حزب الشيطان. 
5- إن أكبر نقيض لليقين هو الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى، كما أن أعظم مانع من الصبر هو الظلم سواء كان للنفس أو للغير أو لهما معا، و على دركاتهما ينحدر المترشح للإمامة إلى أسفل السافلين قال تعالى: {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:177]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال أيضا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال أيضا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
وينبغي أن يعلم أنه كما لليقين والصبر فروع فكذلك للكفر والظلم فروع، ومن فروع الكفر التلبث بالتكذيب أو الشك بشيء من دين الله تعالى، أو الابتداع في الدين ما ليس منه، أو الإنكار لشيء من السنة أو معارضته بالأهواء، وغير ذلك مما يبتلى به بعض المنتسبة إلى العلم والإمامة في الدين، وأما فروع الظلم فمنها سائر المعاصي سواء ما كان منها من أعمال القلوب كالحسد والحقد والرياء والسمعة، أو ما كان من أعمال الجوارح كالكذب والنميمة والغيبة وأكل أموال الناس بالباطل، والجور في الحكم بينهم، وغيرها مما يوقع الإنسان في ظلم ربه وظلم نفسه وظلم إخوانه. 
6- لا شك أن حور طائفة من أئمة الدين بعد كورهم، وانتكاستهم بعد استقامتهم، وتحالفهم مع دعاة الضلالة وهجرهم لأهل الحق، لما يبعث في نفوس المسلمين الخوف والحزن، بل قد يسبب تارة انهزام المجاهدين والدعاة ولو إلى حين، نظرا لقوة تأثير أئمة الضلال في مصائر الأمم عبر تاريخ البشرية الطويل، غير أن للحق جولة وصولة، و لبني هارون نجدة وعودة تهيئ لها صحوة إيمانية علمية ينصر الله بها دينه وأولياءه، ويخذل بها الباطل وأهله، فيبعث من أهل الصبر واليقين من يجدد الدين، ويحمي ديار المسلمين.
خلاصة القول : 
إن درجة الإمامة في الدين ليست رتبة لازمة وصفة أبدية، لا ينزل عنها المرء أو يتحول، بل إنها نتيجة لاستفاء شروط معينة، يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم لذاتها، حتى إن بعض أهل العلم تخيل وافترض خلو الزمان من أئمة الدين و تعذر العمل بأصول الدين وفروعه يوما، ولذلك نجد في القرآن والسنة وكتب التاريخ والسير أخبار الأئمة الظلمة وعواقبهم السيئة، وسير علماء السوء الذين انسلخوا من آيات الله، ولم يحملوا ما حملوا من الكتاب، وما ضرب لهم من أمثال باخس الكائنات.
كما نجد في كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية مباحث عن عزل الأئمة ومحاسبتهم، وهو حق للرعية يمارسها عند الاقتضاء، وأحكام الخروج على الولاة الكفرة عند توفر القدرة وأمن الفتنة، مما يدل على وجوب الصبر على استدامة الشروط الشرعية لأهلية الإمامة في الدين، وذلك بمجانبة كل ما من شأنه أن يخل بواحد من الأصلين العظيمين اليقين والصبر، أو بهما معا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وصاغ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدته الذهبية في فقه الدعوة والسياسة الشرعية فقال: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .

https://al-anbea.blogspot.com/p/1.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق