وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا
حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ
صَعِيدًا زَلَقًا
|
ولما اغتر هذا الجاهل بما أنعم الله به في الدنيا، فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وبينما صاحبة الفقير المؤمن يستمع لهذا الكلام الضال ," قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ" ثم قال مستهجنا ضلالة صاحبة ((أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا))
هذه الأية الكريمة لفت انتباهي فيها قول المتحاور لصديقه " أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" وفي ذلك بيان علم أصحاب ذلك الزمن الغابر من الاقوام بان الانسان خُلق أولا من تراب ثم صار تناسلا يُخلق من نطفه, وذلك من الاعجاز الإخباري للأقوام المعاصرة بأن : العلوم الربانية تنزلت عبر الرسل للإنسان منذ قدوم الازل .وان العلوم تباين حفظها من زمن الى زمن ومن جيل الى جيل فمن العصور والأمم التي آمنت بالله تعالى جاء أخبارها أنها كانت متعلمة مثقفة علوما حقيقية , بينما الشعوب الضالة عاشت زمنها في جهل وخرافات وسحر وضلال أسود .
قال هذا المؤمن منبها صاحبة لجحوده ومعلنا عن ايمانه وتقواه : أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلا سويا سميعا بصيرا، تعلم وتبطش وتفهم، فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة(( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي)) أي؛ لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك (( هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا))؛ لا أعبد سواه، واعتقد أنه يبعث الأجساد بعد فنائها ويعيد الأموات ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال: (( وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه)) ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك. وفي مثل هذا الامر - ورد عن رسول الله قوله " ما أنعم الله على عبد نعمة؛ من أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله))
ثم قال المؤمن للكافر:(فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ))أي من نعيم ما في الدار الآخرة وعسى أن يؤتيني في الدنيا أيضا ((وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ )) ((فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)) وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه ((أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا)) مالحا عميقا في الأرض((فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)) فلا تقدر على استرجاعه قال الله تعالى: ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)
أي؛ جاءه أمر الله الحق فأحاط بجميع حواصله وخرب جنته ودمرها(( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا )) أي؛ خربت بالكلية، فلا عودة لها، وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث سبق له أن قال: (( مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا )) وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم، فهو يقول:(( يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)) قال الله تعالى:
(( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ))أي؛ لم يكن له أحد يتدارك ما فرط من أمره، وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك، كما قال تعالى:(( فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِر))ٍ
بعد هذه النتيجة من الخسارة والجزاء قال الله تعالى في توجيه عام للناس جميعا :(( الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ))- (( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ))
وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى الحياة الدنيا، ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده. وفيها، أن من قدم شيئا على طاعة الله والإنفاق في سبيله، عذب به، وربما سلب منه؛ معاملة له بنقيض قصده. وفيها، أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق، وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة. وفيها، أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر، ونفذ الأمر الحتم. بالله المستعان وعليه التكلان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق