السبت، 27 نوفمبر 2021

ابراهيم والملائكة المرسلون

    


عاد إبراهيم من مصر، كما مرّ معنا آنفاً بقُطعان كثيرة، ومالٍ وفير.. واربت ثروته، وتكاثرت قطعانه حتى ضاقت با رحاب المروج الخضر.. وكان معه "لوط" أحد أقربائه الصّالحين، وأنصاره المقرّبين.
واتّخذ "لوط" لنفسه ناحيةً ثانيةً من أرض فلسطين، بعد أن ضاق الفضاء بقطعانه وقطعان إبراهيم. متخذاً "سدوم" له مقراً، ومنتجعاً..
وكان أهلُ "سدوم" قوماً مفسدين، لا يتورعون عن منكر يأتونه، أو، عن قبيح، ولا يحجزهم عن معصية الله خلقٌ و لادينه، ولا مروءة الرّجال.. وعلاوة على ذلك كلّه، فقد ابتلاهُم الله بانحرافٍ في أمزجتهم، واعتلالٍ في علاقاتهم، فكانوا لا يتناهون،

ويئس منهم لوطُ.. فلطالما دعاهم إلى الهُدى، وخوّفهُم عقاب الله، وعذابه الأليم، فكأنهم، والصلاحَ، على طرفي نقيضٍ، لا يجتمعان... فدعا عليهم نبيُّهم لوطُ بعد أن طفح كيل فسادهم وفحشائهم، وإصرارهم على المنكر...واستجاب الله لنبيّه لوطٍ، الدُّعاء!..
النبي إبراهيم في بيته منصرفٌ إلى بعض شؤونه... ويقال له: يا إبراهيمُ!... ضيوفٌ في الباب!..

وتهلّل وجهُ إبراهيم استبشاراً، وبرقت منه الأسارير الوضاء!.. فأهلاً بالضيوف، وسهلاً،.. ويا مرحباً بالطارقين!.. وكما أنّ إبراهيم "خليلُ الرّحمن"، فهو "أبو الضّيفان" أيضاً.. وكثيراً ما كان يتأخّر في تناول عشاءه، انتظاراً لضيوف قد يكونون إليه متّجهين، فيؤاكلُهُم في هزيعٍ من الليل. ويمكثون عنده ما شاؤوا، على تكريمٍ..

وكان من عادة خليل الرّحمن، أبي الضّيفان، أن يوقد لسُراة الليل، المُدلجين، (أي: المسافرين ليلاً) نيراناً، على القِمم، يهتدون بضوئها، فينزلون عنده ضيوفاً مكرمين.. أما وقد أتوه يطرقون بابه، فيا للبُشرى!..
وخفَّ إبراهيم إلى الباب، يستقبلُ ضيوفه، وقد أخذ المساءُ يوشّح الأرض بدكنةٍ وسوادٍ.. وأدخلهم الدار، ولسانه لا ينقطع عن الترحيب، وأجلس كلاًّ منهم على إهاب (أي: جلد كبشٍ)، وثيرٍ!..

وأسرع إلى الزّريبة، فشدّ منها عجلاً سميناً، ذبحهُ، ثم سلخ جلدهُ على عجلٍ، وأوعز إلى زوجه العجوز سارة، وقد أربت على الثمانين، أن هيّئي لنا من لحم هذا العجل طعاماً، نقدّمه للضيفان!..
وعاد إلى ضيوفه مرحّباً بهم من جديد، يؤنسهم بحديثه الطليّ الطيّب، وكأنّه، في بيانه، قطعٌ من مسكٍ منثور!..
وماهي إلاّ ساعةٌ، أو تزيد قليلاً، حتى كان القِرى (طعام الضيوف) أمام الضيوف، ونظر هؤلاء إلى الطّعام يقدّم إليهم،.. إنّه عجلٌ سمينٌ، قد طرح أمامهم مشوياً!.. وفاحت رائحة الشُّواء، فامتلأ من عبقا المكان..
- على اسم الله يا ضيوف الرحمن..
قال ذلك إبراهيم، وشمّر عن معصميه يبتغي تقديم خالص اللحم لضيوفه.
واعتذر الضيوف عن تناول الطّعام، فلم تمتدّ إليه يدٌ!..
- أتعتذرون؟.. لن تُغادروا هذا المكان قبل تناول الطّعام، وهذا وقتُه، وربِّ الأرضِ والسّماء!..
وازدادت دهشة إبراهيم عندما توسّم وجوه ضيوفه وأجسامهم، فهؤلاء الّذين أمامه، ليسوا بشراً عادِّيين، وخيّل إليه، وإنه لكذلك، أنهم ملائكةً هبطوا عليه من السموات العلى!..
لذلك فهم لا يأكلون، واقشعر بدن إبراهيم، واخذه روع وخوف.. فوجل منهم.. والملائكة- كما يعلم إبراهيم- لايتنزّلون ضيوفاً، ولا يهبطون من السماء، عبثاً، بل رسل يحملون أمر الله تعالى إلى من يشاء من عباده!..
فالوقت، أذاً، ليس وقت ترحيب، ولا قرىً، ولا إكرام،..
ويتساءل إبراهيم، والوجل باد عليه: ترى، ما المهمة التي من أجلها هبط هؤلاء الرسل الكرام
واخذ الملائكة يهدّئون من روع إبراهيم، ويبددون وجله.. ثم ابتدروه وزوجه مبشرين اياهما بغلام عليم.
إنه إسحق،... ويضيفون: {ومن وراء إسحق يعقوب}
وينبهر الزوجان العجوزان، وقد بلغا من العمر عنياً، لهذه البشرى، يحملها إليهما ملائكة السماء فتصيح سارة، وقد عطّت عينيها بيدين مرتعشتين:
{يا ويلتي، أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً، إن هذا لشيء عجيب}
وكانت دهشة إبراهيم دون دهشة سارة زوجه العقيم..
فقال بلهجة تنضح بما يشبه اللامبالاة وكانه لا يعير لهذه البشرى كبير أهمية:
{ابشّرتموني على ان مسني الكبر، فبم تبشرون}
{قالوا: بشّرناك بالحق!..}
وساور إبراهيم إحساس خفي، عميق، بأن تنزل الملائكة يحمل اكثر من بشرى بولادة غلام.. فكأنهم قادمون لأمر أخطر من ذلك وأعظم شأناً!..
- {قال: فما خطبكم أيها المرسلون؟..}
- {قالوا: إنا أرسلنا الى قوم مجرمين} ويشيرون بأيديهم الى جهة سدوم.
ويوقن إبراهيم بأن العذاب آت، لامحالة، قوم لوط!.. وكأنه طلب إمهالهم، فلعل القوم يتوبون الى بارئهم، ويصلحون.. فأخذ يجادل ملائكة ربه في ذلك.
وكان الجواب:
{يا إبراهيم اعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}
فيسكت إبراهيم، ويلوذ بالصمت.. ويطوف بباله خيال لوط، فلطالما دعاهم هذا النبي الى سبيل الرشاد، فلم يؤمن به منهم إلا نفر، جد، قليل!..
- {قال: إن فيها لوطاً..
- {قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيّنهُ وأهله الا امراتهُ كانت من الغابرين}
وينهض الملائكة، وقد أدوا رسالتهم الى إبراهيم-، داعين لأهل بيت إبراهيم برحمة من الله، وسلام، وينصرفون!..
وما ان تصرم الليل، الا أقلة، حتى جاء امر الله، فحاق بقوم لوط سوء العذاب.. فقد زلزل الله بهم الأرض زلزالاً شديداً، فاضطربوا أيما اضطراب.. وأتبع الله ذلك بأن جعل عاليها سافلها، ودمرهم تدميراً.
ويمر المار في غور الأردن وفلسطين، ويتهيأ للصلاة في بقعة من هذه الوهاد الممتدات، الطوال، فيقال له: لا تفعل!.. فأنت في أرض خسف..
فها هنا كانت سدوم، وهناك كانت عمورة، مدينتا قوم لوط!..
وأخيراً ، رزق الله إبراهيم إسحق، فطابت نفس سارة، أن آتاها الله ولداً رسولاً، كما آتى ضرّتها، من قبل، هاجر، إسماعيل نبياً...
فكانت في ذرية خليل الرحمن إبراهيم النبوة والكتاب... وآتاه الله ما قرت به عينه، وأثلج به صدره، ..
وشاهد من آيات ربه البيّنات الكثير الكثير.. فتحول إيمانه إلى يقين، ولا أرسخ.. وكانت نهاية المطاف...
وأحش أبو الأنبياء بدنوِّ أجله، وبالموت يدب في أعضائه المرتعشات وكان ذلك في مدينة "الخليل" في فلسطين، حيث أسلم إبراهيم الخليل وجهه لله حنيفاً مسلماً، ففاضت روحه الشريفة، وقد أغمض عينيه الكريمتين، متمتماً:
- { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا، وتقبل دعاء. ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}
صدق الله العلي العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق